علي حجازي
الأربعاء 16 تموز 2025
شَكَّلت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) نقطة البداية «التنفيذيّة» لمشروع الهيمنة الشاملة في منطقة غرب آسيا. صحيح أن بلدان المنطقة لم تكن مشاركة كأطراف في الحرب، ولكنها كانت تدفع ثمناً باهظاً من جرّاء تبعاتِها. فقد كان لمنطقة «الشرق الأوسط» حصّة وازنة من التداعيات التي أدّت إلى صياغة مناخ إستراتيجيّ جديد في العالم، مهَّدَ لإرساء القواعد الهَيمنيّة الغربية على صعيد شامل، وفي المنطقة العربيّة بشكل خاص. وقد كان لـ«الإقليم» الذي يُحاذي البحر الأبيض المتوسّط أهميّة كُبرى في تلك الصياغة، نظراً إلى الاعتِبار الذي يُمَثّله كناحية «مُفتاحيّة» بالنسبة إلى الدول التي تُعِدّ العُدّة لبناء عالم يخضع لإرادة الاستعمار الغربي.
الواقعة الأبرز تَمَثّلَت بمشروع التقسيم الذي مُنِيَت فيه شعوب بلدان ما كان يُعرَف ببلاد الشام. ففي عام 1916، تم الاتّفاق بشكل سرّي بين بريطانيا وفرنسا، بمباركة حليفتهما روسيا، القيصرية آنذاك، على تقسيم بلاد الشام إلى كيانات مستقلّة. وقد بقي الاتفاق من دون تطبيق حتى عام 1920، حيث انعقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا وأقرّ الانتداب الفرنسي والبريطاني على سوريا، لبنان، العراق، وفلسطين.
لعبت سوريا دوراً محورياً في كل المراحل التاريخية التي مرّت على منطقتنا، وكانت تمثّل غالبًا أرض الولاية، منذ الزمن الأمويّ حتى الزمن العُثماني وصولاً إلى الفترة المُمتَدّة من الربع الأخير من القرن الماضي حتى نهاية عام 2024. نعم، لم تكن سوريا في الشكل الذي استقرّت عليه بعد التقسيم، ولكن المنطقة التي تشكّل اليوم سوريا، مهما تعدّدت مسميّاتها في الحقبات التاريخية المختلفة، تبقى صاحبة الخصائص الذي تخوّلها الاضطلاع بذلك الدور «الإداري» البارز.
مهمّة سوريا في سايكس-بيكو
أوكِلَت إلى سوريا، عبر مشروع سايكس-بيكو التقسيمي، وظائف جوهريّة، نظراً إلى الخصائص التي تتمتّع بها كَكَيان، وهي خصائص ذات أبعاد سياسية وثقافية واقتصادية، تشكّل نقاط ارتكاز للمشروع الاستعماري الذي استُحدث وقتذاك. واستُخدِمَت ضمن نطاق إضعاف الإطار الوَحدوي لبلاد الشام. وتقسيم سوريا، يعني القضاء على أي نيّة لتفعيل مشروع نهضوي عربي في المستقبل، نظراً إلى ما تمتلكه من خصائص تؤهّلها لتَبَوّء قيادة المسارات النهضوية والتحرّريّة في المنطقة.
كانت سوريا تعتبر قلب بلاد الشام و«محوَرها»، وهي نقطة الالتقاء بين البحر الأبيض المتوسّط، الذي يمثّل صلة الوصل مع دول الانتداب، من جهة، وبلاد الرافدين والخليج العربي من جهة أخرى. هذا يعني أن السيطرة عليها تتمخّض عنها القدرة على التحكّم في الممرات البريّة، التجاريّة والعسكريّة، بين آسيا الصغرى والعراق ودول الحجاز، وفلسطين بطبيعة الحال.
من ناحية أخرى، كانت سوريا تعتبر نقطة الارتكاز للمشروع الاستعماري الفرنسي، ويطمع الأخير في بناء منطقة نفوذ فيها توازي تلك التي كانت قائمة مع الموارنة إبّان إقامة حكم المتصرفيّة، إضافةً إلى ما كانت تنويه من مسار نفوذ يشمل دولة لبنان الكبير، ويشكّل الموارنة ركيزته الأساسية. وهو مخطَّط هَيمني يتخطّى الأبعاد السياسيّة والاقتصادية، ليشمل أيضاً المضمار الثقافي والديني والفكري. وبذلك تكون فرنسا قد استحوَذَت على توازن من ناحية النفوذ مع بريطانيا، وكانت سوريا بالذات هي جائزة الترضية التي تنازل عنها البريطانيّون مقابل إرضاء الانتداب الفرنسي، بما تمثّل الأولى من خيار إستراتيجيّ يوازي سلطة التحكّم البريطانيّة في الخليج العربي ومصر.
سوريا آل الأسد
ظلَّت «الشام» تعِدّ نفسها محوراً من المحاور الفاعلة في المنطقة، ولاعباً نَشِطاً في المسار الديناميكي للأخيرة، وعاملاً لا يمكن تخطّي التأثيرات التي تَتَأتّى عن فاعليّته في دول الجوار كافة، وأبعَد من ذلك. شاركت سوريا، بشكل أو بآخر، في غالبية الأحداث التي كانت مفصلية في مسار المنطقة، ابتداءً من الحروب التي خيضت ضد العدو الصهيوني، أو ضد فرنسا وبريطانيا، مروراً بإنشاء الوحدة العربية مع مصر.
أمّا اللحظة المفصلية، فأتَتَ بعد نجاح الرئيس حافظ الأسد في استِلام الحكم، بعد موجة انقلابات امتَدّت لأكثر من عقد، حينها افتَتَحَت سوريا عصراً جديداً استطاعت عبره تبوّؤ المنصب الريادي في بلادنا، وكانت الرقم الأصعب لعقود متتالية، كما واجهت هجمة «السلام» التي وقّعتها مصر، في إطار المحاولة لإخراج دمشق أيضاً من ساحة الصراع مع العدوّ كما فعلت القاهرة أواخر السبعينيات، وهنا بيت القصيد.
صارت سوريا الأسد دولة إسناد القوى التي تكافح من أجل فلسطين، ومن يومها أُخذ القرار بتصفيتها كدولة، أو على الأقل إبطال مفاعيل المواجهة معها وإضعافها قدر المستطاع لجعلها غير قادرة على المواجهة وغير مؤثّرة بتاتاً في مسار الاشتباك في المنطقة.
أراد أعداء سوريا استعادة زمام مبادرة سايكس-بيكو، فالدولة السوريّة بقيادة بشار الأسد تكاد تبطل مفاعيل مشروع التفتيت، وهناك خطر على إزاحته نحو «التقاعد» بعد مرور قرن إلا قليلاً على ولادته.
وما الحرب التي شُنّت على دمشق إلا لإحياء مشروع التقسيم القديم الجديد، وتفعيل خطة التفتيت المنهجيّة التي تجعل الشعوب لا تقوى على مكافحة الاحتلال التوسّعي الذي يدمّر المنطقة.
للأسف، بعد مرور المراحل الصلبة، سقطت سوريا، وسقط معها محور المحور الذي يشتبك مع إسرائيل.
المهمّة الجديدة
إذاً، سقطت سوريا، وصار موطنها مرتعاً لـ«اللا-وطن». وكأنه، في ليلة وضحاها، فقدت سوريا كيانها وكينونتها، وصارت اسماً من غير مضمون، وفاعلاً من دون فعل.
طبعاً لن تضيّع الإمبراطورية هذه الفرصة التي شاركت في صنعها ودفعت من أجلها الأموال وأقرّت العقوبات واستجلبت المرتزقة. لكن سقوط سوريا بهذه السرعة شكّل مفاجأة للجميع، والتحرّك الإسرائيلي المباشر بعد سقوطها يشي بأن الذي كان يُحضّر لها لا يختلف عن المغزى التي انتهت إليه، إنما التوقيت جاء على نحو مفاجئ وسريع، وصار لزاماً إسقاط الخطط المدرجة على مسارات الأحداث، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة على المواقيت.
السؤال الأبرز اليوم: ماذا تريد أميركا من سوريا؟ وأي دور تريد لها أن تلعب في المنطقة؟ وهذا الذي يشغل الجميع في الآونة الأخيرة خصوصاً الجانب اللبناني الذي تنتابه الريبة من الذي يُطبَخ في الغرف السوداء على حساب لبنان واللبنانيين.
إنّ أميركا تريد تلزيم المنطقة لإسرائيل لا سواها، وإنّ نظام الشرع الحالي، والواقع الموجود حالياً في سوريا، لا يرتقيان لأن تكون الأخيرة أداة «تلزيم» في المنطقة. سوريا المنشودة في «الشرق الأوسط الجديد» لا تزال قيد التشكّل، ويحمل هذا المسار بين طيّاته الكثير من العقبات والتشريكات. وحتى الحديث عن تطبيع جاهز بعيد عن الدقّة نوعاً ما. نعم، ركبت سوريا قطار إنهاء العداء مع إسرائيل، ولكن «السلام» قصة أخرى، وعقباته مرتبطة بالشرع نفسه، وهو يواجه حيثيّات داخلية ليست سهلة.
الحديث عن تلزيم لبنان لسوريا يحتاج إلى حيثيّة سوريّة شبيهة بعام 1976، كما وحيثيّة لبنانية تشابه تلك الفترة نفسها. هنا لا نتكلّم عن الحيثيّات الهويّاتيّة، إنما تلك المتعلّقة بالموازين السياسية والعسكرية والاقتصادية. وعندما نغوص في تلك العوامل، نجد أن الحديث لحدّ الآن يبدو غير واقعي.
مع الوقت يتّضح أكثر التوجّه الهويّاتي السوري للنظام وأركانه، وهي مسألة مرتبطة بالوضع الداخلي السوري ومسارات تشكيل نظام الحكم فيها، والحديث هنا يطول.
إن الخطة المعادية المبتغاة في لبنان متلازمة مع تلك التي في سوريا، مع اختلاف الخصائص في كل ساحة، لكن الهدف يبقى واحداً: تغيير هويّة المنطقة تحت القيادة التنفيذية لإسرائيل، وهذه فرصة لن يتخلّى عنها الأميركيون بسهولة. وبالتالي سيزداد الضغط في الساحتين مع اختلاف الشكل والمضمون. وعلى كل حال، نحن أمام مسار قيد التشكّل، تكثر فيه التحليلات والتكهّنات، ولكن علينا دائماً أن نقارب الأمور في عقلية الحاضر، وأن نمتلك الكثير من الحكمة والتبصّر.
كاتب لبناني